الثلاثاء، 8 مايو 2012

الإمام علي أطروحة الغيب بين الشرق والغرب : الحلقة الثانية

 الإمام علي أطروحة الغيب بين الشرق والغرب : الحلقة الثانية 



 
اثير الخاقاني
مرة أخرى نحاول الكتابة حول شخصية الإمام العظيم علي بن أبي طالب وللأسف بلا جدوى من كل ذلك  فكلما اقتربنا من هذا البحر هجمت علينا من أعماقه أمواج عاتية وتلاشت وسائلنا ونحن لازلنا على شواطئه يزحزحنا عن بلوغ اعماقه بعد شاسع بين ما لدينا وما لديه حقا كما هو الغواص اليوم والغواص قبل الف عام إننا نحتاج ألف عام لنبلغ رحلة الاستكشاف عن بعض غوامض سيرة علي ومعالمه وربما بعد آلاف من السنين لانصل حتى الى هذا المقدار لذا نترك الأمر ونعترف بالعجز عنه الى ما تيسر لنا للحديث عنه ، وهو الشأن الفكري والسياسي الذي أحاط بشخص علي في ذلك الحين ذلك الشأن الفكري الذي به ومن خلاله نحلل الأزمة التاريخية التي ألقت بظلالها وبظلامها عليه فأصبح يعلن اسمه بالسب واللعن عشرات السنين ويهضم حقه الى الوقت الحاضر ، والفكر السياسي هو الآخر نافذة لفهم الأسباب التي حدت بهذا البطل والذكي الحذق ان يتسلل جيشه لواذا بعيدا عن ميدانه الا قليلا حتى قيل ان معركة الحسم مع معاوية معركة "صفين " قد كان مع الامام نصابها وتصور كم هو هذا النصاب الذي جعل علي يحارب حربا لو قدر لها ان تمتد أفقيا باتجاه الهدف  لوصل سيف ذو الفقار الى تخوم فارس والروم فاتحا لكنه حارب بقلب شفيق من يحاول هدايتهم بسيفه وتأديبهم برمحه .!! ان نصابه في هذه الحرب - صفين -  ذات المعارك كان اربعون رجلا موطنا على الفداء في سبيل الله مهجته كما يظهر من بعض الروايات ويصدقها انقلاب الجيش على اميره وقائده عندما خدعه ابن العاص برفع المصاحف فلم يثبت الا نفر قلائل اذا حسبنا من مضى على بينة ومن بقي على ثبات كان الرقم لايتعدى ذاك .
استعرض في ليلة شهادته الخالدة جانبا مهما - كما استعرضنا في الحلقات السابقة جوانب أخرى ذات قيمة فكرية وتاريخية تصب في هذا الغرض - انه الجانب الآخر لشخصية الإمام علي عليه السلام ذلك الجانب الذي حاول الكثير من كتاب اللقطات وباحثي النوادر وأقلام الأجرة ان يستدروا عيشهم منها لإثبات هفوة او موضع خلل لعلي في حربه الطويلة مع معاوية فمرة قالوا ان معاوية داهية العرب في محاولة يائسة لاثبات القصور عنده علي ومرة قالوا ان الالتزام الديني لايقيم دولة ولذلك انهارت حكومة الامام وبقت حكومة الملوك في اشارة الى فصل الدين عن الدولة أي علمانية معاوية ودينية علي وغيرها من مصادر كسب الأقلام على بلاط الحكام .!!
لقد حارب علي معاوية ولم تتغير من سيرته مقدار لحظة او تزداد مثلها بل كان متزنا اتزانا رهيبا لكنه افرز حبا وعاطفة لقومه يزداد وتزداد مع كل مساحة انحراف يراها عند قومه ومع كل جهل يستدرج به معاوية قومه الى الشام  .!
انني اليوم انظر الى علي من معسكر معاوية ومن ابائه ومن بلاطه ومن مستشاريه وخواصه لنرى كيف يحارب معاوية علي بن ابي طالب ولماذا ؟
لقد ثبت تاريخيا ان هناك غرفة عمليات لمعاوية بلغة العصر الحديث "خلية ازمة" " تضم مجموعة من كبار اليهود لتقديم مختلف الاستشارات والنصائح والخطط ومن البديهي ان معاوية لم يضع امامهم خطوط حمراء او سقفا أعلى لأفكارهم لان أي خط احمر سوف لن يتعدى علي وحرمته واي سقف للمطالب لن يرتفع الا ويشمل البيت النبوي والعلاقة مع الفكر اليهودي تعود الى ابي سفيان من قبل
   وقد تحدثت مصادر التاريخ والسيرة عن الزيارات المتبادلة بين أبي سفيان واليهود ، ونشاطهم المشترك في تحريك قبائل العرب ! فقد جاء قادة اليهود في وفد رسمي الى مكة في أربعين راكباً أو أكثر برئاسة كعب بن الأشرف ، وعقدوا جلساتهم مع عددم من رؤساء بطون قريش ،وكان حيي بن أخطب سيد بني النضير يقول لقريش:إن قومي بني قريظة معكم وهم أهل حلقة وافرة ، وهم سبع مئة مقاتل وخمسون مقاتلاً).(الصحيح من السيرة:8/41) .
   (فطافوا على وجوه قريش ودعوهم إلى حرب النبي...فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمداً... قال أبو سفيان: هذا الذي أقدمكم ونزعكم؟ قالوا: نعم جئنا لنحالفكم على عداوة محمد وقتاله . قال أبو سفيان: مرحباً وأهلاً ، أحبُّ الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد . زاد في نص آخر قوله: ولكن لا نأمنكم إلا إن سجدتم لآلهتنا ، حتى نطمئن إليكم ! ففعلوا ! قال النفر: فأخْرِجْ خمسين رجلاً من بطون قريش كلها أنت فيهم ، وندخل نحن وأنت بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها ، ثم نحلف بالله جميعاً: لايخذل بعضنا بعضاً ، ولتكونن كلمتنا واحدة على هذا الرجل ما بقي منا رجل ففعلوا فتحالفوا على ذلك ، وتعاقدوا ، فاتَّعدوا لوقت وقَّتُوه...فقال أبو سفيان: يا معشر اليهود أنتم أهل الكتاب الأول والعلم ، أخبرونا عما أصبحنا فيه نحن ومحمد ، ديننا خير أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت ، وننحر الكُوم(الناقة السمينة)ونسقي الحجيج ، ونعبد الأصنام ؟قالوا: اللهم أنتم أولى بالحق، إنكم لتعظمون هذا البيت وتقومون على السقاية وتنحرون البُدْن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فأنتم أولى بالحق منه . فأنزل الله في ذلك: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نصيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) . (النساء:50) فلما قالوا ذلك لقريش نشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله'....فخرجت اليهود حتى أتت غطفان ، وقيس عيلان ، وأخذت قريش في الجهاز ، وسيرت في العرب تدعوهم إلى نصرها ، وألبوا أحابيشهم ومن تبعهم ، ثم خرجت اليهود حتى جاؤوا بني سليم ، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش ، ثم ساروا في غطفان فجعلوا لهم تمر خيبر سنة وينصرونهم ويسيرون مع قريش إلى محمد إذا ساروا ، فأنعمت بذلك غطفان ، ولم يكن أحد أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن ! قال ابن خلدون: وخرج بهم عيينة بن حصن على أشجع(قبيلة) ، وذكر البعض أن كنانة بن أبي الحقيق جعل نصف تمر خيبر لغطفان في كل عام ! (الصحيح من السيرة:9/25)
   وفي أسباب النزول للواحدي:103: خرج كعب بن الأشرف (رئيس بني النضير القبيلة اليهودية )في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ، ليحالفوا قريشاً على غدر رسول الله(ص)وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله(ص)، فنزل كعب على أبي سفيان ونزلت اليهود في دور قريش.... ثم قال كعب لأهل مكة: ليجئ منكم ثلاثون ومنا ثلاثون ، فنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا ذلك) !

  
   وعندما زحف أبو سفيان بجيش الأحزاب الى المدينة وحاصرها ، تحرك معهم اليهود وكانت حصونهم قرب المدينة ، فقام كعب بنقض عهده مع النبي ومزق الصحيفة التي كان فيها العقد ، وجمع رؤساء قومه وهم: الزبير بن باطا ، وشاس بن قيس ، وعزال بن ميمون ، وعقبة بن زيد ، وأعلمهم بما صنع من نقض العهد ! (الصحيح من السيرة:8/41) لكن اليهود جبنوا عن الخروج الى ساحة المعركة فتصور أبو سفيان أنهم غدروا به ، وبرز بطلهم عمرو بن ودّ ورفقاؤه فعبر الخندق وطلب المبارزة فبرز له علي عليه السلام فقتله ثم برز له ابنه فقتله ! ففتَّ ذلك في عضد أبي سفيان والأحزاب فارتبك معسكرهم وسارعوا بالانسحاب والهزيمة !
   وبعد هزيمة الأحزاب غزا النبي بني قريظة، وأراح العاصمة من جوارهم !
أما معاوية فقد عملت هذه العقول اليهودية على ترتيب الأوراق وتهيئة الأجواء لبزوغ نجمه وقبوله مبدئيا من المسلمين بالرغم من كونه من طلقاء مكة ومن دخل الإسلام بحد السيف رغما .!
هذه الترتيبات الذكية نجدها فيما رواه المؤرخون والمحدثون أن كعب الأحبار كان يبشر في خلافة عثمان بخلافة معاوية ، وهذا يدل على علاقة اليهود الخاصة بآل أبي سفيان ! فعندما تفاقمت شكوى الأمصار من ظلم الولاة دعا عثمان ولاته الى اجتماع في موسم الحج لمعالجة ذلك ، فكان كعب الأحبار يقول مبشراً بخلافة معاوية: (وهو يسير خلف عثمان: الأمير والله بعده صاحب البغلة ! وأشار إلى معاوية ! فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال يا أبا إسحاق تقول هذا وهاهنا عليٌّ والزبير وأصحاب محمد(ص)؟ ! قال: أنت صاحبها) ! (الطبري في تاريخه:3/379 ، وتاريخ دمشق:39/123و176و305 ،وأنساب الأشراف للبلاذري/1422، وسير أعلام النبلاء:3/136، ونهاية ابن كثير:8/136، والسنة للخلال:1/281 و:2/457 ، وصححه ، ، والخصائص للسيوطي:1/55 ، وتاريخ الخلفاء153، والنزاع والتخاصم للمقريزي/82 ،  وكامل ابن الأثير:3/48 ، والصواعق لابن حجر:2/629) .
وذكر بعضها أن الحادي كان يقول:إن الأمير بعده عليُّ            وفي الزبير خلفٌ رضيُّ
   فقال له كعب: كذبت ! بل هو صاحب البغلة الشهباء ، يعني معاوية ).
   وفي تاريخ دمشق:50/169 عن روح بن زنباع قال: شهدت كعباً جاء إلى معاوية فقام على باب الفسطاط فناداه: يا معاوية يا معاوية يا معاوية ! فخرج إليه فأخذ بيده فانطلقا جميعاً ! فقلت لأمرٍ مّا جاء كعب يدعو معاوية ! فاتبعت آثارهما فلما كنت قريباً منهما حيث أسمع كلامهما ولا أحب أن يرياني ، سمعت كعباً يقول: يا معاوية والذي نفسي بيده إن في كتاب الله المنزل: محمد أحمد ، أبو بكر الصديق ، عمر الفاروق ، عثمان الأمين  فالله الله يا معاوية في أمر هذه الأمة . ثم ناداه الثانية إن في كتاب الله المنزل ، ثم أعاد الثالثة !! ).
   وقد عقد الشيخ الأزهري محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية/157، فصلاً بعنوان: (من مكر وكيد كعب) أورد فيه عدداً من فعالياته .
   وروى نُعَيْم ابن حماد المتوفى سنة227وهو من الأئمة عندهم في كتابه(الفتن)/64 وبعدها ، عدة روايات عن كعب بأن الخلافة بعد عثمان ستكون لمعاوية ! منها ما تقدم من الطبري ، ومنها: (عن كعب قال: سألت يشوع عن ملوك هذه الأمة بعد نبيها ، وذلك قبل أن يستخلف عمر ، فقال: بعد عمر الأمين ، يعني عثمان ، ثم رأس الملوك يعني معاوية...)
ماهذه الثقة التي يتحلى بها كعب الاحبار هل هي نمط من الكهانة حتى نقبل بها كجزء من التراث المتفشي سابقا من السحر والشعبذة والكهانة ولا أراها كذلك لان معاوية لا يتكل عليه في هذا الشأن لو أراد الضرب بالغيب فهناك أسماء في عالم التنجيم ابلغ من كعب مرات ولكنها تخطيط مستقبلي للحكم يتنبأ وفق معطيات على الأرض يتسلل بعضها الى جيش علي وقادته يمدهم بأموال وهدايا والى رؤساء القبائل ليحوطهم بعطف الخليفة الواعد معاوية ان الفكر اليهودي كان بحق مسيطرا على بلاط معاوية ويزيد وهناك من الدلائل ان واقعة كربلاء من جهد هذا الفكر المنبعث من قصور بني أمية في الشام
  
طبيعة الذهن الاموي :
معاوية طموح الى انتزاع الخلافة الرئيسية من أصحابها والهيمنة على ارث النبي محمد صلى الله عليه واله كما يدعون في اكثر من مناسبة حيث يرون النبوة ارثا او غنيمة حصل عليها النبي ببراعة وهي تورث للأقوى من بعده ومن هنا غلب هذا التفكير حتى على بعض الخلفاء في نقاش له مع ابن عباس اذ كان يرى ان من الأصلح ان لا تجتمع النبوة والإمامة في بني هاشم فيتبجحوا على قريش والناس ويتعالوا عليهم ولا ادري كيف يتفق هذا الاعتقاد مع الاعتراف للنبي بأنه مرسل من الله تعالى وما يجي به إلينا وحيا ليس من إبداعه وما يوصي به ما هو الا الحق .. لقد تسرب ايضا ان معاوية قنوعا بالشام ومن يتصور انه كان مقتنعا بالشام فقط فهو لايعرف الذهن الاموي وطريقة تفكيره ومعالجته للمسائل لكنه كان يرى الشام مركز خلافته الموعودة مكانا وانما هويتها فلا حد لما يريد سوى الخلافة  ، الأمر الآخر الذي حارب من اجله معاوية عليا فترة خلافته لم يكن فيها أدنى أمراً دينيا او تشريعيا وإنما كانت منازعة سياسية صرفة دنيوية واضحة يؤيدها الإعلان الأول لمعاوية في النخيلة أنه قال للمسلمين:(ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا ، وقد أعرف أنكم تفعلون ذلك ، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم ، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون). ( الذهبي في سيره:3/146).
ويشتق من هذا الاعلان احد الباحثين (1) اربع مستويات تحليلية هي
   أولاً ، أن هدفه الحقيقي من سفكه لدماء المسلمين ، ونيته وهدفه من أول الأمر هو: التسلط والتأمُّر على رقابهم ! لا دم عثمان.
  
   ثانياً ، أعلن أن القضية من جانبه صراعٌ على السلطة ، وادعى أنها كذلك من جانب بني هاشم ، وكأنه لا فرق بين محمد بن عبد الله ، وعلي بن أبي طالب ! وما دام انتصر فلا يخاف أن يعلن ذلك !
   فهذا اعترافٌ من معاوية على نفسه بأنه لا دين له ! ونحن نقبل شهادته في حق نفسه ، ولا نقبل تهمته لغيره ، لأنها نفس تهمة أبيه وزعماء قريش للنبي صلى الله عليه واله بأنه يريد تأسيس ملك لبني هاشم كملك كسرى وقيصر ! وقد كذبهم الله تعالى وسمى أبا سفيان وزملاءه أئمة الكفر ، وأمر المسلمين بقتالهم ، فقال: فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ . (التوبة:12) .
  
   ثالثاً ، أعلن معاوية شرعية قانون الغلبة ، فالذي يغلب يكون على حق ، ويكون الله تعالى أعطاه الولاية على الأمة ! والذي يُغلب يكون على باطل ، ويكون الله تعالى حرمه الولاية على الناس ! وهذه جبرية مادية لا يقبل بها عقلٌ ولادين ، لأن الحق والباطل يتبعان دليلهما العقلي أو الشرعي ، لكن بعض جاهلية العرب كانوا يعتقدون بهذه المادية كاليهود ، ومنهم أبو سفيان وابنه معاوية !
   ومن الإشكالات على هذه القدرية أنها تستلزم التناقض والهرطقة لأن الغالب قد يتحول الى مغلوب والحق لايتحول الى باطل ! لكن معاوية يقبل هذه التناقض فيقول إن الله تعالى أعطى النصر لمحمد صلى الله عليه واله على أبي سفيان فكان محمد صلى الله عليه واله على حق ، ثم أعطى لمعاوية النصر على علي عليه السلام وارث محمد فرجع الحق الى معدنه ! وهذا هو منطق خارج عن الفهم الاسلامي بل هو منطق معروف يرى إن الحق تابعٌ للغلبة ! فإذا انتصر المغلوب صار على حق ، وإذا غُلب الغالب صار على باطل ! ويجعل الأنبياء والأوصياء عليهم السلام المغلوبين على باطل!
  
   رابعاً ، أن معاوية كاليهود جادٌّ في ادعائه أن قانون الغلبة يجعله يستمد شرعيته مباشرة من الله تعالى(وقد أعطاني الله ذلك) ! فهي الشرعية الوحيدة التي ليس عنده غيرها ، ولذلك سمى معاوية نفسه(خليفة الله)وافتخر بها ! ففي مروج الذهب:3/52 وفي طبعة 696، وجمهرة خطب العرب:1/445: (الأرض لله وأنا خليفة الله فما أخذت من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزاً لي ! فقال صعصعة:
تُمَنِّيكَ نفسُكَ ما لايكو      ن ، جهلاً  معاويَ  لا تأثمِ...).
   وفي أنساب الأشراف للبلاذري/1109: (قال معاوية: الأرض لله وأنا خليفة الله ، فما أخذت فلي ، وما تركته للناس فبالفضل مني ! فقال صعصعة بن صوحان: ما أنت وأقصى الأمة في ذلك إلا سواء ، ولكن من ملك استأثر ! فغضب معاوية وقال: لهممتُ ! قال صعصعة: ما كل من هَمَّ فعل ! قال: ومن يَحُولُ بيني وبين ذلك؟ ! قال: الذي يحول بين المرء وقلبه ، وخرج وهو يقول بيت الشماخ:
وحذفةٍ كالشجا تحتُّ الوريد              أريدوني إرادتكم فإني..).
  
  وفي مروج الذهب/696، وجمهرة خطب العرب:1/445 ، وشبه به في أمالي الطوسي/5.
 (وخطب معاوية يوماً بجامع دمشق وقال: إن الله أكرم خلفاءه فأوجب لهم الجنة وأنقذهم من النار ، ثم جعلني منهم ، وجعل أنصاري أهل الشام الذابين عن حرام الله ، المؤيدين بظفر الله ، المنصورين على أعداء الله ! وكان في الجامع من أهل العراق الأحنف وصعصعة ، فقال الأحنف لصعصعة: أتكفيني أم أقوم إليه؟ فقال صعصعة: بل أكفيكه ثم قام ورد عليه) ! (مستدركات علم رجال الحديث:1/521)
جواهر التاريخ / الكوراني ج 2 ص 26 -27 -28 2-29 .
الطبيعة العلوية :
قلنا فيما مر من البحث ان طبيعة وذهنية معاوية هي في حد ذاتها وصف معكوس للإمام علي عليه السلام فهناك الدهاء الشيطاني وهنا الهدي الرحماني عند علي وهناك المكر والحيلة وعند علي الشفقة والنصيحة ومعاوية ملك وعلي امام القلوب والعقول لان معاوية كان بالضد من علي في كل شي وتسربلت الضدية الى التجذر في مجالاتها المختلفة فاذا أردت مايقابل علي فعليك بمعاوية وهكذا الحسين فما عليك الا ان تاتي بيزيد ولكننا احببنا ان نعرج على سيرة علي في قبال معاوية لاننا لم نجد لمعاوية خصال في غير السياسة تذكر فكرمه مشوب بغصب الحقوق وحلمه ممزوج بمصالح الأنا ومايظهر من قوة للنفس في الضبط لنيل الشهوة كما يرى للعشاق ونحوهم وحتى دهائه فانه كما يعبر عنه الامام علي فيصف الدهاء بالغدر والغدر يجلب الفجور ..
  واني لاعجب من سماحة الامام لرعيته مع ظلمهم له وظلم معاوية لرعيته مع حبهم له وعدم الانصاف بينهما ومااروع ماقال علي في هذا الأمر ( و لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها ، و أصبحت أخاف ظلم رعيّتي . )( الخطبة 95 ، 188 )
وفي السنة التاسعة والثلاثين للهجرة كان علي عليه السلام قد ذرَّف على الستين من عمره الشريف ، وأمضى أكثر من نصف قرن في الجهاد منذ بعثة النبي صلى الله عليه واله !
 هذا العمر قضاه في تربية النفوس وجهاد الأعداء وزخ العلوم وهداية العباد وإخماد الفتن وإنهاض الأمة وإصدار العلوم وبث المعارف وهو موسوعة في التنظير والتفكير والتطبيق والممارسة ..
، فكان يقول لعمَّاله حكام الولايات: (ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدي به ويستضئ بنور علمه . ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه... ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لاطمع له في القرص ولا عهد له بالشبع . أوَأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرَّى؟! ).

لقد بقي الامام علي والى اخر عمره يتخوف من فتنة معاوية وبني امية بالرغم من شرور لم تكن في مرحليتها اقل خطرا منهما كخطر الخوارج وخطر المنافقين في جيشه وقريب منه لكنه كان يرى ان خطر بني أمية يكمن في انها منهج بعمر طويل  اما باقي الشرور فهي انفعال وردة فعل تزول سريعا ولا تلبث بعده الا رويدا لذا كانت الأولوية في سياسة علي عليه السلام بعد حرب صفين ، أن يكشف للأمة خطر معاوية ، ويوجه المسلمين الى المعركة الفاصلة معه ، وقد واصل العمل لهذا الهدف في عاصمة الخلافة ، وكتب الى عماله في مناطق الدولة الإسلامية .
   ثم تحرك عليه السلام قبل حرب النهروان ، الى معسكر الكوفة بالنخيلة ، وأمر الناس بالتحرك معه الى حرب معاوية ، فاستجاب له قليلٌ منهم ، وأرسل الى البصرة وراسل الخوارج أن يوافوه الى النخيلة للتوجه الى صفين ، فوافاه الأحنف بن قيس في بضعة ألوف من البصرة .
   وعندما كان عليه السلام مُعَسْكِراً في النخيلة ، توالت عليه أخبار الخوارج ، وطلب منه المسلمون أن يتوجه الى حربهم قبل حرب معاوية ، فلم يقبل حتى وجب عليه ، بل كان يؤكد في خطبه ورسائله على أن العدو الأساس لهم: بنو أمية .
   ففي تاريخ الطبري:4/57: (فاتقوا الله وقاتلوا من حادَّ الله وحاول أن يطفئ نور الله . قاتلوا الخاطئين الضالين القاسطين المجرمين ، الذين ليسوا بقراء للقرآن ولا فقهاء في الدين ، ولا علماء في التأويل ، ولا لهذا الأمر بأهل في سابقة الإسلام . والله لو ولوا عليكم لعملوا فيكم بأعمال كسرى وهرقل ! تيسروا وتهيؤا للمسير إلى عدوكم من أهل المغرب ، وقد بعثنا إلى إخوانكم من أهل البصرة ليقدموا عليكم ، فإذا قدموا فاجتمعتم شخصنا إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ).
  وما توجه نحو الخوارج الا بعد ان تمادى جهلهم وربما ازداد الدفع بهم لحرب الامام من الطرف الثالث الذي اراد اشغال الامام بفتن داخلية وحروب قريبة من الكوفة تباعده عن الشام وغيرها وتضعف من قوته قبل الوصول الى هناك  
   وبعد انتصاره على الخوارج حث المسلمين على مواصلة سيرهم من هناك الى صفين ، فتعللوا بأنهم يحتاجون الى فترة استراحة ! فرجع الى معسكر النخيلة ، وأمرهم أن يقلوا المكث عند عوائلهم في الكوفة ، ويعودوا الى المعسكر:
   قال الطبري:4/67: (عن أبي الدرداء قال: كان عليٌّ لما فرغ من أهل النهروان حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله قد أحسن بكم وأعز نصركم ، فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم . قالوا: يا أمير المؤمنين نفدت نبالنا ، وكلَّت سيوفنا ونصلت أسنة رماحنا ، وعاد أكثرها قصداً ، فارجع إلى مصرنا فلنستعد بأحسن عدتنا ، ولعل أمير المؤمنين يزيد في عدتنا عدة من هلك منا ، فإنه أوفى لنا على عدونا ! وكان الذي تولى ذلك الكلام: الأشعث بن قيس !
   فأقبل حتى نزل النخيلة فأمر الناس أن يلزموا عسكرهم ويوطنوا على الجهاد أنفسهم ، وأن يقلوا زيارة نسائهم وأبنائهم ، حتى يسيروا إلى عدوهم ، فأقاموا فيه أياماً ثم تسللوا من معسكرهم ، فدخلوا إلا رجالاً من وجوه الناس قليلاً ، وتُرك العسكر خالياً ، فلما رأى ذلك دخل الكوفة ) !
   وفي الغارات:1/28:(أقاموا بالنخيلة مع علي أياماً ، ثم أخذوا يتسللون ويدخلون المصر ، فنزل وما معه من الناس إلا رجال من وجوههم قليل ، وتُرك المعسكر خالياً ، فلا من دخل الكوفة خرج إليه ، ولا من أقام معه صبر ! فلما رأى ذلك دخل الكوفة ) ! .
  
   قال البلاذري في أنساب الأشراف ص383:  (قالوا وخطبهم بعد ذلك خطباً كثيرة وناجاهم وناداهم فلم يربعوا إلى دعوته ، ولا التفتوا إلى شئ من قوله ! وكان يقول لهم كثيراً: إنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا . وقام أبو أيوب الأنصاري وذلك قبل تولية علي إياه المدينة بيسير فقال: إن أمير المؤمنين قد أسمع من كانت له أذنان وقلب حفيظ ، إن الله قد أكرمكم به كرامة بينة فاقبلوها حق قبولها، إنه أنزل ابن عم نبيكم بين ظهرانيكم يفقهكم ويرشدكم ، ويدعوكم إلى ما فيه الحظ لكم....).
   ويضيف البلاذري: (إن معاوية لما بويع وبلغه قتال علي أهل النهروان ، كاتب وجوه من معه مثل الأشعث بن قيس وغيره ، ووعدهم ومنَّاهم وبذل لهم حتى مالوا إليه ، وتثاقلوا عن المسير مع علي ، كان يقول فلا يلتفت إلى قوله ، ويدعو فلا يسمع لدعوته ! فكان معاوية يقول: لقد حاربت علياً بعد صفين بغير جيش ولا عناء أو قال: ولاعتاد !
ويتضح من هذا النص التاريخي الى أي حد وصلت أموال معاوية في جيش الامام علي والى أي مدى بلغت حقارة من تسلم المال حتى مثل مسرحية البله في حضرة سيد البلغاء حين خطبته يشوش على الحاضرين او يثبط من عزيمة المدافعين عن بيضة الإسلام ..
   ثم وصف البلاذري استعدادات معاوية وإطاعة أهل الشام له فقال: (لما بلغ معاوية أن علياً يدعو الناس إلى غزوه وإعادة الحرب بينه وبينه ، هاله ذلك فخرج من دمشق معسكراً ، وبعث إلى نواحي الشام الصرخاء ينادون أن علياً قد أقبل إليكم ظالماً ناكثاً باغياً ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، فتجهزوا رحمكم الله للحرب بأحسن الجهاز ، وكتب إليهم كتباً قال فيها: إنا كنا كتبنا بيننا وبين علي كتاباً واشترطنا فيه شروطاً ، وحكمنا الرجلين ليحكما بحكم الكتاب علينا ، وإن حَكَمِي أثبتني وخلعه حَكَمُه ، وقد أقبل إليكم ظالماً ناكثاً باغياً ، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ، فتجهزوا رحمكم الله للحرب بأحسن الجهاز ، واستعدوا لها بأكمل العدة ، وانفروا خفافاً وثقالاً ! فاجتمعوا له من كل أوب ، وأرادوا المصير إلى صفين ثانية ، حتى بلغهم اختلاف أصحاب علي ، وكتب إليه بذلك عمارة بن عقبة ، فعسكر ينتظر ما يكون ، إلى أن جاءه خبر مقتله عليه السلام ) .
كم من همّ ملء صدر علي واليوم فقط بدئنا نشعر به وكم من غصة احتملها ولما اصبنا بآثارها تململنا وجزعنا وكم ظلم عاركه الامام نيابة عنا وماوصلنا الا مما تخلل فروج الأصابع ، تعرف علي من معاوية فكل دم يسال في الأمة العربية والإسلامية هذه الأيام هي محصلة لحكم معاوية وما العلمانية الا نسيجه جرت على تدعيمه بني أمية على طول أيامها القاتمة
اراء الصحابة والتابعين فيه عليه السلام
نذكر من كلماتهم:
- قال أبو بكر لامير المؤمنين (عليه السلام): أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة(الفتوحات الاسلامية 2/470 . قالها بعد أن قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعلي مولاه .).
- قال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر(شرح نهج البلاغة 1/6 . تذكرة الخواص ص87 .).
وقال أيضاً: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن(شرح نهج البلاغة 1 / ص 6 . اسد الغابة 4/220 . تهذيب التهذيب 7/337 .).
وقال أيضاً: لا يفتين أحد في المسجد وعلي حاضراً(شرح نهج البلاغة 1/6 .).
وقال أيضاً: علي أقضانا هذيب التهذيب 7/337 .).
وقال أيضاً: اللهم لا تبقني لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب  (تذكرة الخواص 87 .).
- قال عبد الله بن مسعود: كنا نتحدث أنّ أقضى المدينة علي بن أبي طالب(أسد الغابة 4/22 . الائمة الاثنا عشر لابن طولون 50 .).
- قال سعيد بن المسيب: ما كان أحد من الناس يقول سلوني غير علي بن أبي طالب(أسد الغابة 4/22 . الائمة الاثنا عشر لابن طولون 51 ..).
- قال زيد بن أرقم: أوّل من صلى مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم علي بن أبي طالب(الاستيعاب بهامش الاصابة 3/32 .).
- قالت عائشة: ما رأيت رجلاً أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم منه(العقد الفريد 2/216 .).
وقالت أيضاً: أما إنّه لاعلم الناس بالسنة(الاستيعاب بهامش الاصابة 3/40 .).
- قال أبو سعيد الخدري: كنا نعرف المنافقين ببغضهم علياً(الائمة الاثنا عشر لابن طولون 56 .).
- قال عبدالله بن عباس لقوم يتناولون علياً: ويحكم أتذكرون رجلاً كان يسمع وطأ جبرئيل عليه السلام فوق بيته، ولقد عاتب الله أصحاب رسول الله صلّى عليه وآله وسلّم في القرآن ولم يذكره إلاّ بخير(تذكرة الخواص 90 ، الاستيعاب بهامش الاصابة 3/40 . ).
وقال أيضاً: أعطي علي رضي الله عنه تسعة أعشار العلم، ووالله لقد شاركهم في العشر الباقي(الائمة الاثنا عشر لابن طولون 52 .).
وقال أيضاً: لعلي أربع خصال ليست لاحد غيره: وهو أول عربي وعجمي صلّى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي كان لواءه معه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم فرّ غيره، وهو الذي غسله وأدخله قبره(الاستيعاب بهامش الاصابة 3/27 .).
- قال جابر بن عبدالله الانصاري: ما كنا نعرف المنافقين إلاّ ببغض علي بن أبي طالب عليه السلام(الاستيعاب بهامش الإصابة 3/45 .).
     - قال ضرار بن ضمرة الكناني لما طلب منه معاوية أن يصف له علياً: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، ويستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبئناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه هيبة له، فإن ابتسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا يياس الضعيف من عدله. وأشهد لقد رايته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الان وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول: يا دنيا غري غيري، إليّ تعرضت، أم إليّ تشوقت هيهات هيهات، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر، ووحشة الطريق.



0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
Design by Free WordPress Themes | Bloggerized by Lasantha - Premium Blogger Themes | Hostgator Discount Code تعريب : ق,ب,م