كتاب في حلقات / المجتمع العربي نهاية تاريخ ونضوب حضارة ! / الحلقتان الثانية والثالثة
المجتمع العربي نهاية تاريخ ونضوب حضارة
تعريف الحضارة بين الانطواء والتعقيد وإهدار المعنى
قبل
الإجابة على تساؤلات أثرناها في الحلقة الأولى لا مفر من تعريف الحضارة
وهذا المبحث من المباحث المعقدة بسبب تراكم النظرة العامة لمفهوم الحضارة
وانسيابها مع الافق الشمولي في التحديد ، فالخلط بين مفهوم الثقافة
والحضارة والعلم حفز الكثيرين من دارسي الحضارة او العلوم ذات الصلة بها
على تناولها على ارض الثقافة او بالعكس ، مماولد ّ إرباكا ساهم في تعطيل
المضامين من الداخل ، وعندما نناقش التعريف نجد اننا أمام زخم من التعاريف
بلا هدف واضح للعديد منها إلا من الحركة المحورية حول نفسها في دائرة
مغلقة دون ان تنفتح على الواقع ، وتنتهي من حيث بدئت وقد استلبها دوران
اللاوعي الحداثة في الطرح وفي طرح الجديد .
تعريف الحضارة :
لقد
عرفوا الحضارة بانها (مايقابل البداوة من التحضر والحضور في المدن وبعض
عرفها بانها إرادة الإنسان وآخر بأنها حلم الطبيعة ) فيما توجه ابن خلدون
الى الحضارة من زاوية اقتصادية بقوله (إنما الحضارة هي تفنّنٌ في الترف
وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه (أي الترف) من المطابخ والملابس والفرش
والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله؛ فلكل واحد منها صنائع في استجابته
والتأنّق فيه تختصّ به ويتلو بعضها بعضاً؛ وتتكثر باختلاف ما تنزع إليه
النفوس من الشهوات والملاذ والتنعّم بأحوال الترف؛ وما تتلوّن به من
العوائد، فصار طور الحضارة في المُلْك يتبع طور البداوة ضرورةً؛ لضرورة
تبعية الرَّفه للمُلك).
ثم يتناول الحضارة من زاوية اخرى
هي المدنية وانها مرحلة تمثل غاية التكامل بالنسبة الى البداوة فيقول
(..إن المُلْك والدولة غايةٌ للعصبية، وإن الحضارة غايةٌ للبداوة، وإن
العمران كلَّه من بداوة وحضارة وُملك وسوقة (جمهور) له عمر محسوس كما أن
للشخص الواحد من أشخاص المكوّنات عمراً محسوساً). وهذا ما يؤكد نظرية
تَعَاقُبِ الحضارات التي كان ابن خلدون أسبق من فلاسفة أوروبا ومفكريها،
إلى تأصيلها، ثم جاء المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، فَبَلْوَرَهَا وصاغها
صياغةً حديثةً صارت اليوم من المسلّمات في علم فلسفة التاريخ.
أما
ابن الأزرق، فيسوق تعريفاً للحضارة يقول فيه إن: (الحضارة هي النهايةُ في
أكمل العمران الخارج به إلى الفساد، والغاية في الشر البعيد عن الخير، ومن
سلم من ذلك فلا خفاء في قربه من الخير).
فيما عرفها
المفكر مالك بن نبي بانها (بأنها جملة العوامل المعنوية والمادية التي تتيح
لمجتمع ما أن يوفر لكل فرد من أعضائه جميع الضمانات الاجتماعية اللازمة
لتقدمه وصاغها من حيث التركيب بمعادلة دقيقة: حضارة = إنسان + تراب+
وقت.)
وبما ان مصطلح الحضارة جديد على الفكر الغربي اذ
ترجع اهتماماته بهذا المصطلح الى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فقد مزج
مع الثقافة في مفهوم واحد ،ولذلك يعرف ول ديورانت will Durant الحضارة
:( بأنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في انتاجه الثقافي وهي
تتألف من عناصر أربعة الموارد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد
الخلقية ، ومتابعة العلوم والفنون . ) وربما يرجع وضع هذه العناصر في سياق
التعريف من ديورانت تاثرا منه بعاصفة الثورة الصناعية وأثرها المدوي على
الفكر الذي لازال يسمع في الشرق صداه ، واما من وجهة نظري فان تعريف
الحضارة يجب ان يسبقه مرحلة تمهيدية تتمثل في الإجابة على سؤال يلح في
الطرح وهو هل الحضارة علم أم فن أم أخلاقية تلتزم بمبادئها النفس البشرية
عموما ..؟ إن الإجابة على هذا السؤال تثير حيرتي كثيرا لانها واسعة وشائكة
وهي المفتاح وعليها يتوقف التحليل العلمي لينفتح تلقائيا باب التعريف
والنص عليه ، ولكن من يحدد الإجابة ؟ ربما نلجأ في التحديد الى مرحلة
تمهيدية أخرى تمهد للتمهيد الأول وهي إثبات الظرف المزامن للحضارة ، وعلى
هذا الأساس يمكن ان نحدد الجهة التي تتولى متابعة الظرف والمظروف ،الحضارة
وظرفها الخاص بها ، ومما تقدم لا نجد غير الظرف الماضي زمانا للحضارة ولا
غير جغرافية الحراك الفكري مكانا لها ، الطبيعة تقتضي دراسة الزمن وفق
التضاريس لاعائما على السطح الوهمي ، وإذا كان الزمن الماضي والجغرافية
المأهولة بحركة الإنسان دون القفار، والقطع النائية في زوايا الأرض ، هي
محل بحثنا فإننا قد وجدنا الضالة الشاردة ، فالذي يتناول الماضي هو التاريخ
كعلم يبحث في سجل الماضي والماضين فيه وعلاقاتهم وظرفهم وميادين عملهم ،
وأما الواقع الجغرافي الذي تدور عليه حركة الإنسان المفكر في قدح النار من
الحجارة الى صناعة العجلة والكتابة وانتهاءاً بالأهرامات وعجائب الدنيا
السبع يتناولها علم الجغرافية من حيث عمر الأرض والأثر الكوني والتكويني
والعصور الجيولوجية التي مرت على هذه البقاع وكيفية بقاء آثار هذه الحركة
مع تقادم الزمن وشدة الترسبات وفيما يخص الجزء المعقد وهو دراسة نفس الأثر
الحضاري والمتولد من حركة الإنسان في الماضي تمثل موضوع علم الآثار الذي
يخوض الدراسات في شريحة وهي ما يحمله الأثر الموروث من الماضي واما فيما
يخص عملية فهم الحضارة مابين التاريخ والجغرافية والآثار فهي موكولة الى
علم المستقبليات لان الذي يؤيده في دراسة المستقبل هو الماضي السحيق ، وأما
ما يربط هذه العلوم بعضها مع بعض الآخر لانرى غير علم الميتافيزيقا الذي
يتسلط عليها من فوق حين تعجز وحين تقهر وحين تستنجد بعد عصيان الحل . هذا
التمهيد يمهد الى ان الحضارة (منظومة توجيه ) يجتمع فيها علوم التاريخ
والجغرافية والآثار والاستراتيجيات (المستقبليات ) وعلوم الأديان وما وراء
الطبيعة وتضم ما بينها علاقات هذه العلوم مع علوم أخرى حيوية كعلوم الظاهرة
الطبيعية (الفيزياء ) واختلاط العناصر وتركيبها لفهم ما كان مركبا أو
متجسدا بعنصره (الكيمياء ) والبحث في علاقة الإنسان مع بني جنسه ،كيف
يعاشر؟ ولماذا يحارب؟ وما هي أشكال وجوده الاجتماعي؟ وغير ذلك من الاثارات
(علم الاجتماع ) ، وفق ما سبق تدفعنا التمهيدات الى تبني هذا التعريف
الذي يبدو شاملا وهو (الحضارة :منظومة توجيه شاملة (نعني بها شاملة لمختلف
العلوم والمعارف ) لحركة الإنسان المفكر في ما يستطيع الى نيل حاجاته
وأحلامه ضمن قوانين الظروف الثلاثة ومتعلقاتها " الماء والمناخ والأرض"
واثر كل منهما على نشاطه باتجاه المستقبل ) فاذا عرفنا ذلك - ولا ادعي
أنني خارج عن دائرة الرأي الخاص قابلا للتقويم والتقييم في آن واحد - لزم
مما تقدم ان نحلل عناصر التعريف لحيويتها في موضوعنا وتشكلها في وحدة
متجانسة لخلق الحل الملائم لحركة الواقع .
المناخ :
يعتبر
المناخ من العوامل الحاكمة في نشوء الحضارة او عدمها او انتقالها
فالبلدان التي كانت تشهد هطولا للأمطار بنسب كبيرة وباستمرارية تؤدي الى
تقليل المساحة التي يتحرك فيها النشاط البشري وتقليل حجم الأثر الفعال له ،
فالبلدان الغربية تشهد فيها حركة التنقيب عن الأثر الحضاري طابعا محددا
لان النشاط الموروث كان يتخذ أمكنة مغلقة كالمنازل والكنائس لأداء أعماله
وبعض النشاطات الزراعية ، أما في البلدان ذات السنة المطرية قليلة النسب
المتقطعة والتي تعتمد على مياه الري ومياه الأنهار، فمساحة الحركة تمتد على
طول امتداد هذه المصادر وتتخذ حركة مختلفة فمنها زراعي وآخر سكني يحترف
الصيد وهناك نمط يجمع مابين الزراعة والصيد والسكن المتوطن وآخر يترحل دون
إقامة او حب التوطن في مكان ثابت ، مستمد من هذه الأنهار او الواحات عنصرا
للبقاء ، ووفق هذا نلاحظ آثار البلاد هذه تنتشر في معظم الأماكن التي تعيش
فيها الأجيال الحاضرة في هذا الوقت وما ذلك إلاّ لتأثير عوامل المناخ
وربما كان يلامس مثالنا غموض نوضحه أكثر بهذا المثال الآخر : المطلع على
أحوال المنجمد ( القطبين الشمالي والجنوبي ) والبقاع الصحراوية القاحلة
(كالربع الخالي مثلا)هل تجد أثراً لحضارة او حتى عوامل موضوعية لنشوئها، في
حين تتوزع آثارها وفق إرادة المناخ مع الظروف الأخرى ، فالسهل الرسوبي
مثلا موئل لمختلف الحضارات وما ذلك إلاّ لأنها كيان يتحرك في الضمير
الجمعي للإبداع البشري . ويؤثر المناخ كذلك في استقامة المزاج مما يضعف او
يقوي عملية التفكير او مجمل النشاط البشري وهذا ما عبّر عنه في أكثر من
مناسبة ابن خلدون في مقدمته عند بيان الفرق بين البادية والأمصار الحواضر ،
وربما يعزز هذا التصور القراءة الواعية لسيرة جمهرة من المفكرين والفلاسفة
والأدباء بل وحتى الصوفية - مع إيمانهم بمبدأ التجرد عن المحسوسات -
فأنهم يؤمنون بخصوبة الاطلاع وغزارة الفكرة وسعة الخيال في مناخ معين دون
سواه كما عبر عن ذلك ابن عربي المتاله والصوفي الكبير عندما زار واستقر في
سوريا (حلب ) ومات فيها مبديا إعجابه في مناخها بالرغم من كونه من أصحاب
التجرد .
الماء :
هذا
السائل الذي جُمعت فيه الحياة تفرقت الأحياء به ! فالأراضي التي يشقها نهر
تنتعش بالحركة والفعالية ، في حين تجدب وتختفي ملامح الحياة مع اختفاءه
منها ، وبالتالي فان الأثر الفيزيقي يكاد يبدو واقعا ملموسا ، فالإنسان
يفكر ويتحرك ويبدع ويثمر في حدود قانون الظرف وما يسمح به ، ومن هذه الظروف
الأساسية بل أسّ الظروف هو الماء ، وهو من مصادر حركة المناخ في جوانب
متعددة كالأمطار والثلوج وغيرها ، ووفق هذا يؤثر الماء على حركة الإنسان
المبدعة ، وبالتالي على مقدار الأثر الحضاري الواصل ألينا ونوعيته وحجمه ،
فالبقاع الغنية بالماء تتناسب في علاقة مطردة مع الزيادة في النشاط البشري
بل ان نوعية الماء تؤثر في نوعية النشاط ، فالبلدان التي تعتمد على مياه
الآبار الأجاج تختلف عنها عند مياه الآبار العذبة ، فمجتمع المياه المالحة
تزداد فيه هياج العاطفة والحركة والتذبذب والسطحية في اتخاذ القرار بفعل
العاطفة ، وعلاقة الملوحة واقعة كسبب في ضيق الأفق وحدة المزاج ، فالعمل
يبدأ كبيرا ثم يتغير المزاج عنه الى غيره ، وهذا ما يفسر عدم قابلية
مجتمعات المناطق الواقعة جنوبا في بلدان الشرق الأوسط - كعامل من عوامل
عديدة - على التكوين الاجتماعي الطويل الأمد كتبني تنظيمات او بناء مؤسساتي
او تكتلات تمتد مع امتداد سير المجتمعات لتنضج على دفء الزمن شيئا فشيئا ،
وهذا لا ينفي وجودها ولكن يبقى نسيجها واهٍ يتمزق عند أدنى أزمة .وبرغم
هذا فان لهذه المجتمعات ميزة منقطعة النظير هي سرعة التكيف وامتصاص الأزمات
، والتجاوب مع التغيير حتى على مستوى التفكير وهو_ أي مجتمع المياه
المالحة _ بيئة خصبة لنمو العبقريات فقط دون حضانتها ، أما مجتمع المياه
العذبة فهو متزن الحركة والعاطفة والسلوك ، بطيء التكيف غير قابل للتغيير
السريع ، من السهل التنبؤ بمستقبله على المدى البعيد .
الأرض :
ان
تأثير هذا الظرف او بالأدق الموضوع الظرفي يفهم حسب قانون الأرض محور
الواقع ، وهو حيز الحياة اليومية ، ويمكن ان نعرّف الأرض بأنها ظرف مكان
يعوم فيه الظرف الزمني ، والإنسان يسعى بين جذب الأرض وملاحة الزمن ،
لتسيير أموره وقضاء مآربه ، وعلى هذا فالأرض تؤثر في الإنسان زمانا ومكانا ،
فتشكل منه أنسانا يتحرك ببطء شديد ، يتلكأ في عمله ، همّه ان يصل الى سد
الرمق كانسان الجبال ، وأعماق الصحاري ، والجزر النائية ، او تراه يلتهب
نارا يبني الأهرام وينتج من الطين فخارًا رائعاً يتخذ منه الأواني والمشارب
ونحوها من ضرورياته كما في إنسان السهول وأكتاف الأنهار والوديان ، كما
أنها تولد فيه حبها فيقف أمامها عاجزا عن تركها او تؤدي فيه حب السعي لها
فيكون سائحا تائها فيها كانسان البداوة راحلا لايقيم على محل دائم .او تزرع
فيه خواصها كاملة ممّا يزرع او يغرس او يربي من أصناف الحيوان في دورة
تبدأ منها وتنتهي أليها ، لاشك ان الأرض مؤثر فيزيقي وميتافيزيقي قوي على
الإنسان فهي تبدو محيطة به حين يمشي او يركب او يطير او ناظرا فيها وهي
أمام عينيه مصيرا أزليا تغوص في ثراها الأجساد لتستحيل ترابا عائدا بالنفع
لها وهي مضرب الأمثال والعبر وكما قال المتنبي :
أبداً تسترد ما تهب الأرض كأن كل جودها كان بخلا
وعفوا
سيدي المتنبي إذا أبدلنا لفظة الدنيا من بيتك الشعري بالأرض لأنهما سواء
فالأولى تغرر بالإنسان في ذهنه والأخرى على الواقع وكلاهما في البخل
والإيقاع والبسط والقبض وجهان لشيء واحد .
إشكالية الدلالة :
نلاحظ
ان العديد من مثقفي وكتاب هذا العصر يضعون كل ما يقع بين يديهم من
المواضيع الجميلة او الدقيقة او العظيمة بأنها مشاريع حضارية ! ولا غرابة
في ذلك لأنهم يستمدون وصفهم هذا من تعريفهم الملتبس للحضارة ، وخلطهم بين
الثقافة والحضارة في معنى واحد ، وهو تجني على الألفاظ والمعاني بحرف
مساريهما عن أصل الوضع ،او ربما يظن الباحث او المثقف بصورة عامة بان
مسايرة حاجة الواقع الى الخطأ الشائع هو ذاته مقاصد الصحيح منها ، إذا سدّ
مسدّ حلولها التي من اجلها وضعت ، لا اعرف مذبحة بلا دماء سفكت فيها أعناق
المفكرين وأهدرت على صعيدها الجهود المضنية مثلما أرى هذه الأيام من خلط
مفجع بين الدلالة والنص ، ولعلي أفسر بهذا مقطعا لباحث ملتفت الى هذا
المعنى اذ يذكر (ولا خلاف في تاريخية اللغة تتضمن اجتماعيتها الأمر الذي
يؤكد ان للمفاهيم بعدها الاجتماعي الذي يؤدي إهداره الى إهدار دلالات
النصوص ذاتها ) والحضارة كنص ودلالة افترقا واختلفا وأهدر المعنى إهدارا
مجحفا ،في حين يباغتنا الخطباء من قوميين وسياسيين بان حضارتهم ترجع الى
آلاف السنين ، وهم يطلقونها على حاضرهم ويسبغون أسبابها على ماضيهم ، بل
الانكى أنهم يشيرون بصدقيتها حينما تنبعث من الغرب او يلبسونها ثوب علم
الآثار كلما سمعوا بآثار بابل او سومر او الأهرامات ، سمعت يوما كهلا تحدث
بلسان قومه حينما شاهدنا سوية لقطات من نهب المتحف العراقي بان سقوط النظام
العراقي البائد في 9/4 على شاشة احدى الفضائيات واعقب هذه اللقطات احد
المتظاهرين بقرب المتحف يبكي على طلل فسأله المراسل لهذه القناة الفضائية
على ماذا يبكي قال ابكي على حضارة العراق فقد نهبت !! بعد ان تمت التغطية
الإعلامية ضحك الكهل الذي بقربي قائلا دون سؤال بلهجته العراقية الدراجة
انقل معناها الفصيح (هل هذه الأصنام والأحجار هي الحضارة كنت احترم الحضارة
قبل اليوم لأني تصورتها شيئا آخر ! أما الآن وقد عرفتها فلتذهب الى
الجحيم او الى جيوب الناهبين ) ترددت كثيرا قبل ان اعلق على بكاء ذلك
السفيه الحزين على الحضارة بزعمه ، وعلى هذا السفيه الآخر على حكمه القاسي
قبل التروي ومعرفة خيوط وملابسات القضية ولكني في النهاية حكمت عليهما
بالإفراج معا لأنهما شهود قصّر ، لقد اختزل واقعنا النخبوي الحضارة بمكان
فزاروا الآثار بين بابل والأهرام ، وظنوا أنهم كرموها ثم أطلقوا نفس اللفظة
- الحضارة - على التكنولوجيا ووسائل التطور ولم يسوروا اللفظ حتى بمصطلح
يبين الأمر كأن يقولوا التحضر في وسائل الاتصال او البعد الحضاري للتقدم
في الحداثة ، ان هذا الخلط يتفق مع خطاب السلطة والتسييس دائما لان اجتزاء
الحضارة وبسطها كمفهوم يتأسس عليه سياسة احتواء لعوامل تحريك المجتمعات
لأنها - أي الحضارة - لو أخذت كمنظومة توجيه ودليل يتحرك بالنخب والعامة في
آن واحد وحركة منتظمة في قوانين الطبيعة وذهنية الإنسان محكومة بعمومية
ميتافيزيقية متجانسة مع صنوف التفاصيل ،فغايتها بالتأكيد تكتسح في النهاية
الفرد الجاهل فوق مقاليد الأمور والمتسلط على النفوس بغير دليل .
الحضارة والثقافة :
حدث
الترابط بفعل الفكر الغربي الذي وصل مصطلح الحضارة إليه متاخراً ، يضاف
الى هذا التأخير فان الغرب استوت فكرة المدنية لديه أكثر وهي تناسب الثقافة
ومواردها ، نتيجة لذلك انعكس مفهوم الثقافة والمدنية على الحضارة كمصطلح
وفكر ونظرية ! ونلاحظ هذا في تعريف ول ديورانت السالف للحضارة بانها نظام
اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي ..وقبل الخوض في هذا
الفصل نبين مفهوم الثقافة اولا :
أما الثقافة لغةً فهي من
ثَقِفَ الشيء أي حذقه وفهمه. ورجل ثَقِفْ أي حاذق الفهم. وقال ابن
السُكّيت: رجل ثَقْف لَقْف إذا كان ضابطاً لما يحويه قائماً به. ويقال:
ثَقِفَ الشيء وهو سرعة التعلم. وقال ابن دريد: ثَقِفْتُ الشيء: حذقتُه،
وثقفته إذا ظفرت به. قـال تعـالى: ﴿ فَإِمـَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي
الْحـَرْبِ فَشـَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهـُمْ﴾ أي إذا أدركتهم وسيطرت
عليهم. وفي حديث الهجرة: وهو غلام لَقِن ثَقِف أي ذو فطنة وذكاء .
ولكن المعنى خرج إلى عدة معان أخرى ، ومن أهمها :
1-
الحذق والفطنة في إدراك الشيء وفعله بسرعة : ومنه قيل : رَجُلٌ ثَقِفٌ
وثَقْفٌ وثَقِيفٌ وثَقُفٌ ، وقَلْبٌ ثَقْفٌ ، أي : سريع التَّعلم والتَّفهم
. وجاء في وصف زيد بن ثابت ، في حديث كتابة المصحف : فإنه كان شاباً
حَدَثاً ثَقِفاً يكتب لرسول الله .
2- إدراك الشيء
والحصول عليه بسرعة : وقد عَرَضَ القرآن الكريم لهذا المعنى ، في الآيات
التي تعرَّضت لمادة ثقف ، وكلها بمعنى : الأسْر ، والظَّفَر ، وإدراك
الأعداء .
3- تقويم المعوج من الأشياء : ويستخدم في
التقويم الثِّقَاف ، وهي : حديدة تكون مع القوَّاس والرَّمَّاح ، يُقَوِّمُ
بها الشيءَ المعوجَّ .
4- التهذيب والتأديب : وتأتي بهذا
المعنى إذا كان الفعل متعدياً مثل : ثقَّفَ الأستاذُ الطالب ، والتثقيف
تقويم المعوج بالثقاف ويستعار للتأديب والتهذيب .
احتدم الجدل حول تحديد مصطلح الثقافة وتعريفه ويرجع السبب في ذلك إلى عدة أمور ، ومن أهمها :
الثقافة في الاصطلاح :
1- عدم مراعاة الصلة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي .
2- حصر المصطلح بالنتاجات الفلسفية ، والدينية ، والفكرية ، والأدبية ، والفنية .
3- توسيع المصطلح أحياناً ليشمل : أسلوب الحياة ، والسلوك الاجتماعي الذي يصبغ حياة الأفراد .
4- اختلاف المعرِّفين باختلاف تخصصاتهم .
5- اختلاف الاتجاهات والمدارس الفكرية العالمية .
6- عدم وضوح التعريف في أذهان الكثير من الباحثين الذين كتبوا عن الثقافة .
7- التداخل في المصطلحات التي تعبر عن مفهوم الثقافة .
وبفعل هذا التداخل واللبس فقد تعدد لمفهوم الثقافة تعريفات كثيرة تزيد على مئة تعريف، وأشهرها تعريف "تايلر" عالم الانتروبولوجيا البريطاني، والذي عرّف الثقافة بأنها: ذلك الكل المركب من المعلومات والمعتقدات والفنون والأخلاق والعادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في المجتمع.
ويشتمل هذا التعريف الذي ساقه تايلور على ثلاث خصائص من أكثر خصائص الثقافة أهمية وهي أن :
1- الثقافة اكتساب إنساني يتم من خلال عملية تسمى التنشئة الثقافية .
2- الشخص يكتسب الثقافة باعتباره عضواً في المجتمع .
3- الثقافة كل معقد تتمثل وحداته فيما يسمى السمات الثقافية .
ويرى
مالك بن نبي صاحب كتاب " مشكلة الثقافة " أن الثقافة هي : المحيط
الاجتماعي الذي يحدد أسلوب الحياة الاجتماعية ، ويطبع تصرفات الفرد بطابع
معين . ويرى أن الثقافة مكونة من أربعة عناصر :
العنصر الأول : التوجيه الأخلاقي ( المبدأ الأخلاقي ) .
العنصر الثاني : التوجيه الجمالي ( الذوق الجمالي ) .
العنصر الثالث : المنطق العملي ( ارتباط العمل بالمقاصد ) .
العنصر الرابع : التوجيه الفني أو الصناعي ( التقنية الحديثة ) .
تأثير
المجتمع عند مالك بن نبي هو الثقافة التي تخرج أفرادها مثقفين وهو تعريف
رائع لكنه ليس قياسي اذ يعتمد المبدأ الشرحي في إطلاقه فليس كل مجتمع يثقف
أبناءه وفق متبنياته فهناك الرغبة والذهنية الخاصة والطموح والخروج على
المألوف خصوصا في مجتمعات الغرب وقد لامسه بن نبي بحكم الإقامة الطويلة في
فرنسا ،كما ان التأثير الاجتماعي المتأتي من الضغط وكبت الحريات لايولد
انطباعا حقيقيا في الفرد لأنه مكره في التلقي ومجبر على التعلم وكلاهما
اثبتا فشلا في التعاطي معهما .ولكن رأي بن نبي دقيق في مسالة إحاطة المجتمع
واحتوائه لرأي الفرد في سلوكه اليومي على المدى التدريجي وكما يعرف بسرقة
الطباع وهو مبدأ إسلامي جاء من الحديث الشريف (من رافق القوم أربعين يوما
صار منهم ).
تعريف آخر :يرى بان الثقافة
هي تلك الكيفية التي ننتج بها مانفكر فيه وما نقوله وما نسلكه ، ونشكل به
المجتمع الذي نعيش به ..وهو رأي للكاتب برهان غليون في مجلة الثقافة في
عددها الاول . وهذا الرأي يخلط أيضا بين الفكر والثقافة فهذه الكيفية ملكة
ذاتية تنتج مايفكر وما يقول وما يسلك به في المجتمع أي انه عرف الفكر ولم
يتطرق للثقافة ،اما المثقف فهو يجمع او يلمّ بالأفكار ويبوبها في مجالات
حياته اليومية ، وهو محور الخلاف بين المفكر والمثقف . ومما سبق نخرج بصيغة
توافقية من التعاريف اللغوية والاصطلاحية للثقافة بأنها "مركب عقائدي
ومعلوماتي وعرفي يجمع إليه الفنون والأساليب يتحرك في دائرة الحاضر" اما
الحضارة فهي منظومة توجيه تشمل حركة الإنسان المبدعة وفق قوانين مستحكمة
وسنن تاريخية وهي نتاج أجيال في حقب زمنية او قرون متباعدة تختمر فيها
الأفكار مع الموروث باتجاه المستقبل .
أوجه المقارنة:
وهناك من وزع أوجه المقارنة على ثلاث اتجاهات في بيان العلاقة بين الحضارة والثقافة :
الاتجاه
الأول : ينظر للثقافة والحضارة على أنهما شيء واحد ، وأن العلاقة بينهما
علاقة تطابق وتلازم ، لأن المظاهر المادية والمعنوية تتضافر جميعاً في
إنشاء النظم الاجتماعية .
الاتجاه الثاني : ينظر للحضارة
نظرة عامة شاملة لكل ما أنتجه عقل الإنسان ويده من أمور مادية ومعنوية ،
فالعلاقة هنا علاقة جزء بكل ( الحضارة كل والثقافة جزء ) .
الاتجاه
الثالث : يجعل الثقافة خاصة بالجوانب العقلية والفكرية ، بينما تكون
الحضارة مقصورة على الجانب المادي في الصناعات والابتكارات والمخترعات وغير
ذلك .
هذه الاتجاهات الثلاث تمثل النظرة العامة لمصطلح
الحضارة والثقافة ، وعند التحليل فإننا أمام مشكلة واحدة فقط هي تحديد
العناوين وبالتالي تتحدد المضامين تلقائيا ، فاذا حددنا مفهوم الثقافة تبين
لنا وجه الفرق والعمل وهو بحد ذاته المدخل الى المضمون ومرد اللبس بين
المصطلحات "الحضارة والثقافة " نتيجة الاشتراك في المهام فالحضارة تعنى
فيما تعنى بالآثار كجزء من الإرث الفكري لحركة الإنسان فتم تغليبه على
المصطلح تماما فانسحق المفهوم الحضاري في الجانب الأثري فتولد فراغ مابين
المعنيين سده بعض الباحثين ببديل خاله بعضهم الحل وآخرون المرادف له ،كما
حدث عندما عمم ول ديورانت مفهوم المدنية على الحضارة وجعل الحضارة المنتج
للثقافة ربما يعذر كما أسلفنا لحداثة معرفتهم بالمصطلح الحضاري ولكن قد لا
أجد مبررا كافيا لمن نشأ في بيئة المصطلح ذلك هو الكاتب او الباحث الشرقي
مهد الحضارة ،اذ غيب بعضهم بفعل الاشتباه وقلة التركيز في النصوص والعناوين
صفحة كاملة من حركة المشرق او الأمة العربية بالذات في شتى الميادين
ونسخها بالحركة الحاضرة والتي هي موضوع الثقافة ويقصدون بها الحضارة ،
فالثقافة وفق ماسبق جهد الفرد او المجتمع في سياق واحد فقد يكون في
المجتمع فرد او مجموعة من الأفراد يصدق عليهم المفهوم الثقافي فقط وقد يكون
المجتمع كله مثقفا اما في الحضارة فالأمر مختلف فالجهد جهد امة او أمم
والمصطلح يشير الى منظومة من التوجيه تشمل إبداع الإنسان في حركته الماضية
وفق قوانين مستحكمة وسنن تاريخية غير قابلة للتفاوض ، ويضرب لنا القران
الكريم نموذجا حضاريا كشاهد على المفهوم الحضاري في نظرية ضخمة المضمون
هي(مداولة الأيام) ربما نخصص لها فصلا خاصا بها بإذن الله .ولابد ان نعرف
أيضا من أن الثقافات إذا مضى حينها تصبح جزئا ينظم في قانون ارث الشعوب
يشكل خزينا غنيا من التجارب ضمن منظومة الحضارة ..وقد يعترض البعض على هذا
المورد بان الحضارة أصبحت شيئا من الماضي الصرف فلماذا تعترضون على فكرة ان
الحضارة هي مجموع الآثار التي عثر عليها علماء الآثار وهل تحصل لنا من
الماضي غير هذا او هل يمكن ان نلم بالماضي إلاّ من هذه الآثار ؟ وللإجابة
على هذا السؤال اعترض على حصر النقل من الماضي او توريد الحاضر من الماضي
بالآثار" القطع الحجرية او الأختام او الأواني " وما شابه ذلك .. هناك طرق
عديدة اذكر منها ثلاثة على سبيل المثال لا الحصر :
•1.
الكتب والمنشورات التي عثر عليها او على جزء منها كشاهد على الحضارات
السابقة كمسلة حمو رابي وغيرها وان كانت صيغة الكتاب قد تعني في النهاية
القطع الحجرية ولكنه يبقى كتاب يحمل مدلوله الخاص به وليس حجرا باليا .
•2.
الأمثال والحكم والعبر والقصص التي تنتقل بالمشافهة الى مستوى زمني ثم
تؤرشف في صحف او على الحجر او على الجدران او نحو ذلك واختلاف هذا المصدر
عن الأحجار الأثرية هي في كون النص المنقول جاء حاكيا عن جميع الجوانب
الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ،لأنه بصورة أدق ليس انشاءا من كاتب بل
هو تصوير لحال المجمعات السالفة وما جرى لها .
•3.
الاكتشاف العلمي للعوامل الخاملة في التراث وهو عامل لم يكن من العوامل
المحسوبة سابقا ولكن لأهميته أدرجه هنا ، فقد توصل العلماء في مجال علم
الآثار و البايلوجي والجيولوجي (علوم الأرض )والفيزياء والكيمياء وغيرهم
الى حل شفرات الآثار المعقدة كالخط المسماري وعمر الحضارات السابقة بالدقة
والظروف البيئية التي مرت عليها وأسباب اندثار البعض وبقاء البعض الآخر كما
اكتشفوا بالتجربة العلمية الغاز الذي كان ينتشر في الغرف الفرعونية (لعنة
الفراعنة ) والمادة التي يحفظون بها المومياء وهي قادت الى معرفة الخبرات
العلمية والمناهج السائدة في البحث آنذاك . وجوانب تجعل من الماضي مشهدا
تلفازيا حيا او مسرحية تتابع على المسرح فصولها .
وهكذا
نصل الى نقطة اختلاف وأتلاف بين الحضارة والثقافة ولكن ليس بالضرورة ان
تكون على أساس علاقة الكل بالجزء وانما على أساس المشتركات وأواصر التفاعل
ونحو ذلك .
وللبحث صلة يتبع في الحلقات القادمة إنشاء الله تعالى ..
0 التعليقات:
إرسال تعليق